menu_bgservdownloadthemesdirforumhome
Smf عربى



المحرر موضوع: الذوق الرفيع..في السيرة العطرة  (زيارة 2624 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل بنت جزائر الأبطال

  • عضو شرف
  • *
  • مشاركة: 159
  • الشعبية: +3/-0
  • الجنس: أنثى
    • مشاهدة الملف الشخصي
الذوق الرفيع..في السيرة العطرة
« في: 31 , مايو, 2009 - 03:41:20 مسائاً »



أخرج البخاري(فتح الباري:6/566) عن أنس رضي الله عنه قال:"ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحا قط أو عَرفا(هي الريح أيضا، وفي بعض الطرق عرق) قط أطيب من ريح أو عَرف النبي صلى الله عليه وسلم."

و أخرج أيضا عن عائشة قالت:"كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته." أي بريقه   (فتح الباري:10/366)
و أخرج البخاري(فتح الباري:5/395)عن أنس قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أنسا غلام كيِّس(أي سريع الحركة) فليخدمك، قال: فخدمته في الحضر والسفر، فوالله ما قال لي لشيء صنعتُه: لمَ صنعتَ هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه: لِم لمَ تصنع هذا هكذا."
وفي رواية أبي داود(12/392)النسخة الإلكترونية: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها أف قط، وما قال لي لم فعلت هذا، أو ألا فعلت هذا."
قال الحافظ ابن حجر(فتح الباري:10/460):"ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات، لأن هناك مندوحةً عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدةَ تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها، لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. "

الذوق إحساس بالرقة يَغمر و يفيض، يُترجمه مَن تحضّر سلوكا مع الناس يُؤلف و يُحمد، يراعي أصحابُه مقامات الناس و أقدارهم، في المأكل و المشرب، في التحية و القيام، في الضيافة و الإكرام، في التوديع  والتشييع و الاستقبال، و هو مسلك يُنبئ عن طبع سويّ، تُظاهره تنشئة سليمة و تربية عاقلة، هو ينتمي إلى التخلّق المحمود و إن فاقه في مراعاة بعض الجوانب، قد لا يسيء إلى من أهمل التحلي به، وإن كان محل عتاب من عاقل يراعيه و يحفل به، و قد لا تختل حياة الناس بفقده، و إن كان خلو الزمان منه ينذر باختلالٍ قد لا تتأخر بوادره، لعل مِن أهم ما يتسبب في هدره و عدم اعتباره هو التداخل بين الأعراف من غير نظام، و اختلاط الأجناس من دون ترتيب، حالة الغِنى لا تستلزمه بالضرورة، كما أن حالة الفقر لا تنافيه حتما، بيئة المدينة موطنه إن خلت من الأخلاط،  وحياة البداوة تلفِظه، و إن لم تخل من استثناء.
النبي صلى الله عليه و سلم بهذا المسلك-فيما أُثر عنه فيما سلف من نصوص- يمثل قمة الذوق في التعامل، دعوة و تمثّلا، في مجتمع خرج لتوه من أخلاق موغلة في القسوة و الجهالة، و أعراف أنشأتها  ورسختها بيئة بدوية تتميز عادة بالغلظة و الجفاء، و المصير إلى هذا الوضع ما كان ليتم بهذه السرعة و السلاسة لولا الأثر العقدي و ما أحدثه في النفوس، و عاملُ القدوة و ما أوحى به من اندفاع للتمثّل.
إن التطيب بأحسن ما يُقدر عليه حتى يدل الطيب على مقدَم صاحبه، في أجواء صحراء قاحلة، يكفي أن تهبّ فيها ريح لتذهب بالمظهر البهيّ، و إن التعامل مع الأصحاب بأعلى ما يمكن الوصول إليه من رقة و ذوق، في بيئة بدوية لا يُضمن فيها أن يبدر من أحدهم قول نابٍ أو فعل شائن: ينبئ عن نقلة في حياة الناس لا عهد لهم بها، و عن نموذج كان يجري التأسيس له يختلف عن كل ما سبق، و لذلك كان مبلغ التأثير أن أثار هذا النموذج في العالم من القبول أو الاهتمام و الإعجاب ما لم يحصل مع نماذج سابقة أو لاحقة.

بلوغ هذا المستوى من الذوق في التعامل قد يكون عزيز المنال، غير أن السعي لذلك ينبغي أن يبقى هدفا لكل مسلم يترسم الخطو و يقتفي الأثر، حين تتمتع الأمة بعافيتها، أو حين يسمح وضعها بالسعي لذلك، و لو لم تكن في أحسن أحوالها: أن يتطلع الأفراد للنموذج شوقا إليه، و أن لا يَكِلّوا من السعي لتحقيقه، لكن قد يقال باستغراب مَشوب بمرارة و استنكار: الأمة تعاني من تدهور يلامس كل ناحية من نواحي الحياة، و أنت تجعل من مراعاة مثل هذا الأمر البسيط قضية أو مطلبا، و كأنك لا تعيش بين الناس، و كأنك لا تعلم ما أحدثوه من فساد، و ما تلبّسهم من علل؟ و العقلاء يحترمون الأولويات و يُرتِّبون المطالب، فتصحيح العقائد و الحثّ على العناية بالقيم الكبرى أهم و أولى من مراعاة الأذواق، التي قد تشملها الدعوة للمكارم، و يُغني عنها التحلي بالفضائل، فإفرادها بالهمّ ينصبّ عليها أو ينصرف إليها: بمثابة مَن يُؤتى بجريح بغرض الإسعاف: فيُستعاض عن ذلك بالتجميل و التزيين؟

إن هو منطق يبدو مقبولا لأول وهلة، و هو منطق قد انحاز إليه البعض عقودا في مسيرة الإصلاح،  وأقدِّر أن أنصاره لا يزالون ينافحون عنه، غير أن نظرة في الواقع-بمختلف تعقيداته-لا تسمح باستمرار التسليم بوجاهة هذا الرأي بإطلاق-نظريا على الأقل- فمحاولات الإصلاح غالبا ما تتعثّر في المجتمع حين تستوطنه الأدواء فيستسلم للأقدار، فيما يركن إليه من قعود، و في أثناء ذلك تتنامى وتيرة التدهور و لا تحفل بجدالات مَن يبتغي الإصلاح في أي السبل أجدى: الترميم أو إعادة البناء من جديد، وحين تسيطر على المرء فكرة السبيل الثاني لا يرى في غيره –ولا فيما دونه-أدنى أمل، وقد يستهين بكل سعي لا يستجيب لأولوياته، أو قد يشارك في ترسيخ الرداءة، من حيث يدري أو لا يدري، وبذلك تبقى فكرة الإصلاح أمرا تجريديا في أحسن الأحوال، في مقابل واقع: آلياتُ التدهور فيه لا ننتظر اهتمامات المصلحين ولا أولوياتهم.
إن العمل بقاعدة "ما لا يدرك كله لا يترك جله أو بعضه" من أجل الإبقاء على الحد الأدنى من الأخلاق والمكارم، و الحفاظ على الوضع المحتمل: طرح يسعى أصحابه هذا إلى التشبث بما تبقّى من أعراف مقبولة وتقاليد حسنة، لأن التفريط فيها أو عدم السعي لاستعادتها-بحجة الإخلال بالترتيب المانع من التأثير- سيُطيل من أمد الفساد، وقد يصل به إلى حالة الإحباط أو اليأس لا قدّر الله